الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَلَا تَحْسَبَنَّ "، وَلَا تَظُنَّنَّ. كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " وَلَا تَحْسَبَنَّ "، وَلَا تَظُنَّنَّ. وَقَوْلُهُ: "الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ "، يَعْنِي: الَّذِينَ قُتِلُوا بِأُحُدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمْوَاتًا "، يَقُولُ: وَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، أَمْوَاتًا، لَا يُحِسُّونَ شَيْئًا، وَلَا يَلْتَذُّونَ وَلَا يَتَنَعَّمُونَ، فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدِي، مُتَنَعِّمُونَ فِي رِزْقِي، فَرِحُونَ مَسْرُورُونَ بِمَا آتَيْتُهُمْ مِنْ كَرَامَتِي وَفَضْلِي، وَحَبَوْتُهُمْ بِهِ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِي وَعَطَائِي، كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ. فَلَمَّا وَجَدُوا طَيِّبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَأْكَلِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِنَا! لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ! فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْآيَات). حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ، قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْهَا فَقِيلَ لَنَا: إِنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَيَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَيْهِمُ اطِّلَاعةً فَيَقُولُ: يَا عِبَادِي، مَا تَشْتَهُونَ فَأَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَا فَوْقَ مَا أَعْطَيْتَِنَا! الْجَنَّةُ نَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ شِئْنَا! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ يَطَّلِعُ فَيَقُولُ: يَا عِبَادِي، مَا تَشْتَهُونَ فَأَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَا فَوْقَ مَا أَعْطَيْتِنَا! الْجَنَّةَ نَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ شِئْنَا! إِلَّا أَنَّا نَخْتَارُ أَنْ تُرَدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا، ثُمَّ تَرُدَّنَا إِلَى الدُّنْيَا فَنُقَاتِلَ فِيكَ حَتَّى نُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً أُخْرَى ". حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْمَقْدِسِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ: إِنِّي قَدْ قَضَيْتُ أَنْ لَا تَرْجِعُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ، وَلَوْلَا عَبْدُ اللَّهِ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ أَحَدٌ! قَالَ: أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍفِي قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى قَنَادِيلِهَا، فَيَطَّلِعُ إِلَيْهَا رَبُّهَا، فَيَقُولُ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ نَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَنُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقٍ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ وَقَالَ عَبْدَةُ: "فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ يُخْرِجُ عَلَيْهِمْ رِزْقَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا). حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَنْبَأْنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ وَقَالَ: يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ فِيهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، وَأَنْبَأْنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ الْفُضَيْلِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يُخْرِجُ عَلَيْهِمْ رِزْقَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا). حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَيْضًا يَعْنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَّا أُبَشِّرُكَ يَا جَابِرُ؟قَالَ قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: إِنَّ أَبَاكَ حَيْثُ أُصِيبَ بِأُحُدٍ، أَحْيَاهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا تُحِبُّ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، أُحِبُّ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقَاتِلَ فِيكَ فَأَقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى). حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا نَعْلَمُ مَا فَعَلَ إِخْوَانُنَا الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تَعَارَفُ فِي طَيْرٍ بِيضٍ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَسَاكِنَهُمُ السِّدْرَةُ.. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَنْبَأْنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: تَعَارَفُ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ وَبِيضٍ وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: وَذُكِرَ لَنَا عَنْ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ}، قَالَ: هُمْ قَتْلَى بَدْرٍ وَأُحُدٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَبُّ، أَلَا رَسُولٌ لَنَا يُخْبِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَّا بِمَا أَعْطَيْتَنَا؟ فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا رَسُولُكُمْ، فَأَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، الْآيَتَيْنِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قَالَ: أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ كَطَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ. قَالَ: فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ مِنْ شَيْءٍ فَأَزِيدُكُمُوهُ؟ قَالُوا: رَبَّنَا، أَلَسْنًا نَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي أَيِّهَا شِئْنَا! ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَيْهِمُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ مِنْ شَيْءٍ فَأَزِيدُكُمُوهُ؟ قَالُوا: تُعِيدُ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا فَنُقَاتِلُ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى! فَسَكَتَ عَنْهُمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الثَّالِثَةِ حِينَ قَالَ لَهُمْ: هَلْ تَشْتَهُونَ مِنْ شَيْءٍ فَأَزِيدُكُمُوهُ؟ قَالُوا: تُقْرِئُ نَبِيَّنَا عَنَّا السَّلَامَ، وَتُخْبِرُهُ أَنْ قَدْ رَضِينَا وَرُضِيَ عَنَّا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُرَغِّبُ الْمُؤْمِنِينَ فِي ثَوَابِ الْجَنَّةِ وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، أَيْ: قَدْ أَحْيَيْتُهُمْ، فَهُمْ عِنْدِي يُرْزَقُونَ فِي رَوْحِ الْجَنَّةِ وَفَضْلِهَا، مَسْرُورِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ ثَوَابِهِ عَلَى جِهَادِهِمْ عَنْهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يُرِيَهُمْ يَوْمًا كَيَوْمِ بَدْرٍ، يَبْلُونَ فِيهِ خَيْرًا، يُرْزَقُونَ فِيهِ الشَّهَادَةَ، وَيُرْزَقُونَ فِيهِ الْجَنَّةَ وَالْحَيَاةَ فِي الرِّزْقِ، فَلَقُوا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَاتَّخَذَ اللَّهُ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: "وَلَا {تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ذَكَرَ الشُّهَدَاءَ فَقَالَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، زَعَمَ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، فِي قَنَادِيلَ مَنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ، فَهِيَ تَرْعَى بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فِي الْجَنَّةِ، تَبِيتُ فِي الْقَنَادِيلِ، فَإِذَا سَرَحْنَ نَادَى مُنَادٍ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ مَاذَا تَشْتَهُونَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، نَحْنُ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُنَا! فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ أَيْضًا: مَاذَا تَشْتَهُونَ؟ وَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُنَا! فَيُسْأَلُونَ الثَّالِثَةَ، فَيَقُولُونَ مَا قَالُوا: وَلَكِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَرُدَ أَرْوَاحُنَا فِي أَجْسَادِنَا! لِمَا يَرَوْنَ مِنْ فَضْلِ الثَّوَابِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا زَالَ ابْنُ آدَمَ يَتَحَمَّدُ حَتَّى صَارَ حَيًّا مَا يَمُوتُ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِيأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ، قَالَ: لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ. قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْجَعْفَرِيُّ، فَخَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَوْا غَارًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَاءِ قَعَدُوا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ هَذَا الْمَاءِ؟ فَقَالَ-أُرَاهِ أَبُو مُلْحَانَ الْأَنْصَارِيُّ-: أَنَا أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى حَيًّا مِنْهُمْ، فَاحْتَبَى أَمَامَ الْبُيُوتِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ بِئْرِ مَعُونَةَ، إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ كَسْرِ الْبَيْتِ بِرُمْحٍ، فَضَرَبَ بِهِ فِي جَنْبِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! فَاتَّبَعُوا أَثَرَهُ حَتَّى أَتَوْا أَصْحَابَهُ، فَقَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْـزَلَ فِيهِمْ قُرْآنًا، رُفِعَ بَعْدَ مَا قَرَأْنَاهُ زَمَانًا. وأَنْـزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ، أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ الَّذِينَ أُصِيبُوا يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقُوا رَبَّهُمْ، فَأُكْرِمُهُمْ، فَأَصَابُوا الْحَيَاةَ وَالشَّهَادَةَ وَالرِّزْقَ الطَّيِّبَ، قَالُوا: يَا لَيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا مَنْ يُبَلِّغُهُمْ أَنَا لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا! فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا رَسُولُكُمْ إِلَى نَبِيِّكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. فَهَذَا النَّبَأُ الَّذِي بَلَّغَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مَا قَالَ الشُّهَدَاءُ. وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ: "فَرِحِينَ " وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: "عِنْدَ رَبِّهِمْ ". وَالْآخَرُ مِنْ قَوْلِهِ: "يُرْزَقُونَ ". وَلَوْ كَانَ رَفْعًا بِالرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: "بَلْ أَحْيَاءٌ فَرِحُونَ "، كَانَ جَائِزًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَفْرَحُونَ بِمَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فَارَقُوهُمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَاهِجِهِمْ مِنْ جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مَعَ رَسُولِهِ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِنِ اسْتُشْهِدُوا فَلَحِقُوا بِهِمْ صَارُوا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ إِلَى مِثْلِ الَّذِي صَارُوا هُمْ إِلَيْهِ، فَهُمْ لِذَلِكَ مُسْتَبْشِرُونَ بِهِمْ، فَرِحُونَ أَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا كَذَلِكَ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، يَعْنِي بِذَلِكَ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَمِنُوا عِقَابَ اللَّهِ، وَأَيْقَنُوا بِرِضَاهُ عَنْهُمْ، فَقَدْ أَمِنُوا الْخَوْفَ الَّذِي كَانُوا يَخَافُونَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَنَكَدِ عَيْشِهَا، لِلْخَفْضِ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ وَالدَّعَةِ وَالزُّلْفَةِ.. وَنَصْبُ "أَنْ لَا " بِمَعْنَى: يَسْتَبْشِرُونَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الْآيَةَ، يَقُولُ: لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فَارَقُوهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْرِهِمْ، لِمَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضْلِ وَالنَّعِيمِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الْآيَةَ، قَالَ، يَقُولُونَ: إِخْوَانُنَا يُقْتَلُونَ كَمَا قُتِلْنَا، يَلْحَقُونَا فَيُصِيبُونَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَصَبْنَا. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: ذُكِرَ لَنَا عَنْ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قَالَ: هُمْ قَتْلَى بَدْرٍ وَأُحُدٍ، زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا قَبَضَ أَرْوَاحَهُمْ وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ، جُعِلَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَرْعَى فِي الْجَنَّةِ، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. فَلَمَّا رَأَوْا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، قَالُوا: لَيْتَ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ بَعْدَنَا يَعْلَمُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ! فَإِذَا شَهِدُوا قِتَالًا تَعَجَّلُوا إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ! فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي مُنَزَّلٌ عَلَى نَبِيِّكُمْ وَمُخْبِرٌ إِخْوَانَكُمْ بِالَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ. فَفَرِحُوا بِهِ وَاسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا: يُخْبِرُ اللَّهُ نَبِيَّكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ بِالَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، فَإِذَا شَهِدُوا قِتَالًا أَتَوْكُمْ! قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " إِلَى قَوْلِهِ: {أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}، أَيْ: وَيُسَرُّونَ بِلُحُوقِ مَنْ لَحِقَ بِهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ عَلَى مَا مَضَوْا عَلَيْهِ مِنْ جِهَادِهِمْ، لِيُشْرِكُوهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ، وَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ.. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}، قَالَ: هُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ مِمَّنْ يُسْتَشْهَدُ مِنْ بَعْدِهِمْ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} حَتَّى بَلَغَ: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينِ لَمْ يُلْحِقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}، فَإِنَّ الشَّهِيدَ يُؤْتَى بِكِتَابٍ فِيهِ مَنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِ مِنْ إِخْوَانِهِ وَأَهْلِهِ، فَيُقَالُ: "يَقْدُمُ عَلَيْكَ فَلَانٌ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَيَقْدُمُ عَلَيْكَ فَلَانٌ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا "، فَيَسْتَبْشِرُ حِينَ يَقْدُمُ عَلَيْهِ، كَمَا يَسْتَبْشِرُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِقُدُومِهِ فِي الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "يَسْتَبْشِرُونَ "، يَفْرَحُونَ "بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ "، يَعْنِي بِمَا حَبَاهُمْ بِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ عَظِيمِ كَرَامَتِهِ عِنْدَ وُرُودِهِمْ عَلَيْهِ "وَفَضْلٍ " يَقُولُ: وَبِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَضْلِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}، كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: "يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ " الْآيَةَ، لِمَا عَايَنُوا مِنْ وَفَاءِ الْمَوْعُودِ وَعَظِيمِ الثَّوَابِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِقَوْلِهِ: "وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ".وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ قِرَاءَاتٍ فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ "الْأَلِفِ "مِنْ "أَن" بِمَعْنَى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَبِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَبِكَسْرِ "الْأَلِفِ "، عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بِأَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: {وَفَضْلٍ وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}. قَالُوا: فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "وَإِنَّ اللَّهَ " مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْأَوَّلِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا يَضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}، لَا يُبْطِلُ جَزَاءَ أَعْمَالِ مَنْ صَدَّقَ رَسُولَهُ وَاتَّبَعَهُ، وَعَمِلَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: "وَأَنَّ اللَّهَ " بِفَتْحِ "الْأَلِفِ "، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ عَلَى ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ "، الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْجُرْحُ وَالْكُلُومُ.. وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: الَّذِينَ اتَّبَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَمْرَاءَ الْأَسَدِوَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنْ أَحْدَاثٍ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ- أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ- مُنْصَرَفُهُمْ عَنْ أُحُدٍ. وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا انْصَرَفَ عَنْ أُحُدٍ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِهِ حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، لِيَرَى النَّاسُ أَنَّ بِهِ وَأَصْحَابِهِ قُوَّةً عَلَى عَدُوِّهِمْ. كَالَّذِي: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: (كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ [يَوْمَ] السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، يَوْمَ الْأَحَدِ لَسْتَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوَّالٍ، أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ بِطَلَبِ الْعَدُوِّ، وَأَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ أَنْ: "لَا يَخْرُجَنَّ مَعَنَا أَحَدٌ إِلَّا مِنْ حَضَرَ يَوْمَنَا بِالْأَمْسِ ". فَكَلَّمَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي كَانَ خَلَّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ، وَقَالَ لِي: "يَا بُنَيَّ، إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَكَ أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ، وَلَسْتُ بِالَّذِي أُوثِرُكَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْسِي! فَتَخَلَّفْ عَلَى أَخَوَاتِكَ "، فَتَخَلَّفْتُ عَلَيْهِنَّ. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ مَعَهُ. وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهِبًا لِلْعَدُوِّ، لِيُبَلِّغَهُمْ أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ، لِيَظُنُّوا بِهِ قُوَّةً، وَأَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ لَمْ يُوهِنْهُمْ عَنْ عَدُوِّهِم). حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى عَائِشَة بِنْتِ عُثْمَانَ: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَانَ شَهِدَ أُحُدًا قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا، أَنَا وَأَخٌ لِي، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ: فَلَمَّا أَذَّنَ [مُؤَذِّنُ] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ، قُلْتُ لِأَخِي-أَوْ قَالَ لِي-: أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّا إِلَّا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ! فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ، فَكُنْتُ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عُقْبَةً وَمَشَى عُقْبَةً، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا، الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ). حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}، أَيْ: الْجِرَاحُ، وَهُمُ الَّذِينَ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ إِلَى حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} الْآيَةَ، وَذَلِكَ يَوْمُ أُحُدٍ، بَعْدَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَبَعْدَ مَا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ- أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ- فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: (أَلَا عِصَابَةٌ تُنْتَدَبُ لِأَمْرِ اللَّهِ، تَطْلُبُ عَدُوَّهَا؟ فَإِنَّهُ أَنَكَى لِلْعَدُوِّ، وَأَبْعَدُ لِلسَّمْعِ! فَانْطَلَقَ عِصَابَةٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْجَهْد). حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: انْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ مُنْصَرِفًا مَنَّ أُحُدٍ، حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَدِمُوا وَقَالُوا: بِئْسَمَا صَنَعْتُمْ! إِنَّكُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ، حَتَّى إِذَا لَمَّ يَبْقَ إِلَّا الشَّرِيدَ تَرَكْتُمُوهُمْ! ارْجِعُوا وَاسْتَأْصِلُوهُمْ. فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَهُزِمُوا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ، فَطَلَبَهُمْ حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، ثُمَّ رَجَعُوا مِنْ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَذَفَ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ الرُّعْبَ-يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ- بَعْدَ مَا كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفًا، وَقَدْ رَجَعَ وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ "! وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالَ، وَكَانَ التُّجَّارُ يَقْدُمُونَ الْمَدِينَةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَيَنْزِلَونَ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُمْ قَدِمُوا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَكَانَ أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ الْقُرْحُ، وَاشْتَكَوْا ذَلِكَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ. وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَدَبَ النَّاسَ لِيَنْطَلِقُوا مَعَهُ، وَيَتَّبِعُوا مَا كَانُوا مُتَّبَعِينَ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَرْتَحِلُونَ الْآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى عَامٍ مُقْبِلٍ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فَخَوَّفَ أَوْلِيَاءَهُ، فَقَالَ: "إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ "! فَأَبَى عَلَيْهِ النَّاسُ أَنْ يَتْبَعُوهُ، فَقَالَ: "إِنِّي ذَاهِبٌ وَإِنْ لَمْ يَتْبَعْنِي أَحَدٌ "، لِأُحَضِّضَ النَّاسَ. فَانْتَدَبَ مَعَهُ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ، وَعُمْرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَالزُّبَيْرَ، وَسَعْدًا، وَطَلْحَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فِي سَبْعِينَ رَجُلًا فَسَارُوا فِي طَلَبِ أَبِي سُفْيَانَ، فَطَلَبُوهُ حَتَّى بَلَغُوا الصَّفْرَاءَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة أنَّهَا قَالَتْ لعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: يَا ابْنَ أُخْتِي، أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ أَبَاكَ وَجَدَّكَ-تَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَالزُّبَيْرَ- لَمِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: (أُخْبِرْتُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ لَمَّا رَاحَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ عَامِدُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ ! فَقَالَ: إِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَتَرَكُوا الْأَثْقَالَ، فَإِنَّهُمْ عَامِدُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَإِنْ جَلَسُوا عَلَى الْأَثْقَالِ وَتَرَكُوا الْخَيْلَ، فَقَدْ رَعَبَهُمُ اللَّهُ، وَلَيْسُوا بِعَامِدِيهَا ". فَرَكِبُوا الْأَثْقَالَ، فَرَعَبَهُمُ اللَّهُ. ثُمَّ نَدَبَ نَاسًا يَتْبَعُونَهُمْ لِيُرُوا أَنَّ بِهِمْ قُوَّةً، فَاتَّبَعُوهُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فنَزَلَتْ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}. حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَة: إِنْ كَانَ أَبَوَاكَ لَمِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ- تَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَالزُّبَيْرَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَوَعَدَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُحْسِنَ مَنْ ذَكَرْنَا أَمْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ، إِذَا اتَّقَى اللَّهَ فَخَافَهُ، فَأَدَّى فَرَائِضَهُ وَأَطَاعَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمْرِهِ "أَجْرًا عَظِيمًا "، وَذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَالْجَزَاءُ الْعَظِيمُ عَلَى مَا قَدَّمَ مِنْ صَالِحِ أَعْمَالِهِ فِي الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ "، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ}. وَ "الَّذِينَ " فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ مَرْدُودٍ عَلَى "الْمُؤْمِنِينَ "، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مِنْصِفَةِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. وَ "النَّاسُ " الْأَوَّلُ، هُمْ قَوْمٌ-فِيمَا ذُكِرَ لَنَا- كَانَ أَبُو سُفْيَانَ سَأَلَهُمْ أَنْ يُثَبِّطُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِهِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ عَنْ أُحُدٍ إِلَى حَمْرَاءَ الْأَسَدِ. وَ "النَّاسَ " الثَّانِي، هُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ قُرَيْشٍ، الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِأُحُدٍ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ}، قَدْ جَمَعُوا الرِّجَالَ لِلِقَائِكُمْ وَالْكَرَّةِ إِلَيْكُمْ لِحَرْبِكُمْ "فَاخْشَوْهُمْ "، يَقُولُ: فَاحْذَرُوهُمْ، وَاتَّقُوا لِقَاءَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَكَُمْ بِهِمْ {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}، يَقُولُ: فَزَادَهُمْ ذَلِكَ مِنْ تَخْوِيفِ مَنْ خَوَّفَهُمْ أَمَرَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يَقِينًا إِلَى يَقِينِهِمْ، وَتَصْدِيقًا لِلَّهِ وَلِوَعْدِهِ وَوَعْدِ رَسُولِهِ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ، وَلَمْ يَثْنِهِمْ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِمُ الَّذِي أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْرِ فِيهِ، وَلَكَِنْ سَارُوا حَتَّى بَلَغُوا رِضْوَانَ اللَّهِ مِنْهُ، وَقَالُوا ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، إِذْ خَوَّفَهُمْ مَنْ خَوَّفَهُمْ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "حَسْبُنَا اللَّهُ "، كَفَانَا اللَّهُ، يَعْنِي: يَكْفِينَا اللَّهُ {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، يَقُولُ: وَنَعِمَ الْمَوْلَى لِمَنْ وَلِيَهُ وَكَفَلَهُ. وَإِنَّمَا وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ "الْوَكِيلَ "، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِأَمْرِ مَنْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، قَدْ كَانُوا فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَوَثِقُوا بِهِ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَصْفَ نَفْسِهِ بِقِيَامِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَتَفْوِيضِهِمْ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ بِالْوِكَالَةِ فَقَالَ: وَنَعِمَ الْوَكِيلُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيالْوَقْتِ الَّذِي قَالَ مَنْ قَالَ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي وَجْهِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا فِيهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحُدٍ إِلَى حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، فِي طَلَبِ أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ، وَذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قِيلَ ذَلِكَ، وَمَنْ قَائِلُهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: مَرَّ بِهِ-يَعْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْبَدٌ الخزاعيُّ بِحَمْرَاءَ الْأَسَدِ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ، مُسَلِّمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ، عَيْبَةَ نُصْحٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِهَامَةَ، صَفْقَتُهُمْ مَعَهُ، لَا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِهَا، وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ فِي أَصْحَابِكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ كَانَ أَعْفَاكَ فِيهِمْ! ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْرَاءَ الْأَسَدِ، حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، قَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالُوا: أَصَبْنَا! حَدَّ أَصْحَابِهِ وَقَادَتِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ، ثُمَّ نَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ؟! لَنَكُرَّنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَلْنَفْرَغَنَّ مِنْهُمْ". فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا قَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مَثَلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدْ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، فِيهِمْ مِنَ الْحِنْقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مَثَلَهُ قَطُّ!. قَالَ: وَيْلُكَ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ تَرْتَحِلُ حَتَّى تَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ! قَالَ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ! قَالَ: فَإِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ! قَالَ: وَمَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: كَـادَتْ تُهَـدُّ مِـنَ الأصْـوَاتِ رَاحِلَتِي *** إِذْ سَـالَتِ الْأَرَضُ بِـالجُرْدِ الأبَـابيِلِ تَـرْدِي بِأُسْـدٍ كِـرَامٍ لَا تَنَابِلَـةٍ *** عِنْـدَ اللِّقَـاءِ وَلَا خُـرْقٍ مَعَـازِيلِ فَظَلْـتُ عَـدْوًا، أَظُـنُّ الْأَرْضَ مَائِلَـةً *** لَمَّـا سَـمَوْا بِـرَئيسٍ غَـيْرِ مَخْـذُولِ فَقُلْـتُ: وَيْـلَ ابْـنَ حَـرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ *** إِذَا تَغَطْمَطَـتِ البَطْحَـاءُ بِـالخِيلِ إنِّـي نَذِيـرٌ لأهْـلِ البَسْـلِ ضَاحِيَـةً *** لِكَـلِّ ذِي إرْبَـةٍ مِنْهُـمْ وَمَعْقُـولِ مِـنْ جَـيْشِ أَحْـمَدَ لَا وَخْـشٍ قَنَابِلُـهُ *** وَلَيْسَ يُـوصَفُ مَـا أَنْـذَرْتُ بِـالقِيلِ قَالَ: فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ. وَمَرَّ بِهِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ. فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمَدِينَةَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمِيرَةَ. قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مبلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً أُرْسِلُكُمْ بِهَا، وَأُحَمِّلُ لَكَُمْ إِبِلَكُمْ هَذِهِ غَدًا زَبِيبًا بِعُكَاظَ إِذَا وَافَيْتُمُوهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِذَا جِئْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا السَّيْرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ! فَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءَ الْأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ: "الَّذِينَ {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، وَ "النَّاسُ "الَّذِينَ قَالُوا لَهُمْ مَا قَالُوا النَّفَرُ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ مَا قَالَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ رَاجِعُونَ إِلَيْكُمْ! يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا نَدِمُوا يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالُوا: "ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ "، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَهُزِمُوا، فَلَقُوا أَعْرَابِيًّا فَجَعَلُوا لَهُ جُعْلًا فَقَالُوا لَهُ: إِنْ لَقِيتَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّا قَدْ جَمَعْنَا لَهُمْ! فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَلَبَهُمْ حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، فَلَقُوا الْأَعْرَابِيَّ فِي الطَّرِيقِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ثُمَّ رَجَعُوا مِنْ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي لَقِيَهُمْ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (اسْتَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ أُحُدٍ عِيرًا وَارِدَةً الْمَدِينَةَ بِبِضَاعَةٍ لَهُمْ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِبَالٌ، فَقَالَ: إِنَّ لَكَُمْ عَلَيَّ رِضَاكُمْ إِنْ أَنْتُمْ رَدَدْتُمْ عَنِّي مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ، إِنْ أَنْتُمْ وَجَدْتُمُوهُ فِي طَلَبِي، وَأَخْبَرْتُمُوهُ أَنِّي قَدْ جَمَعْتُ لَهُ جُمُوعًا كَثِيرَةً. فَاسْتَقْبَلَتِ الْعِيرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نُخْبِرُكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَدْ جَمَعَ لَكَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَأَنَّهُ مُقْبِلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْجِعَ فَافْعَلْ! فَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَّا يَقِينًا، وَقَالُوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ} الْآيَة). حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أُحُدٍ خَلْفَهُمْ، حَتَّى كَانُوا بِذِي الْحَلِيفَةِ، فَجُعِلَ الْأَعْرَابُ وَالنَّاسُ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ لَهُمْ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ مَائِلٌ عَلَيْكُمْ بِالنَّاسِ! فَقَالُوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَالَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَهُ، فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَذَلِكَ فِي مَسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ قَابِلٍ مِنْ وَقْعَةِ أُحُدٍ لِلِقَاءِ عَدُوِّهِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، لِلْمَوْعِدِ الَّذِي كَانَ وَاعَدَهُ الِالْتِقَاءَ بِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ "، قَالَ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ: "مَوْعِدُكُمْ بَدْرٌ حَيْثُ قَتَلْتُمْ أَصْحَابَنَا "، فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَسَى "! فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَوْعِدِهِ حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا، فَوَافَقُوا السُّوقَ فِيهَا وَابْتَاعُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}، وَهِيَغَزْوَةُ بَدْرٍ الصُّغْرَى. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ وَزَادٍ فِيهِ: وَهِيَ بَدْرٌ الصُّغْرَى قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمَّا عَبَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَعَلُوا يَلْقَوْنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَيَقُولُونَ: "قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ "! يَكِيدُونَهُمْ بِذَلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُرْعِبُوهُمْ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ "، حَتَّى قَدِمُوا بَدْرًا، فَوَجَدُوا أَسْوَاقَهَا عَافِيَةً لَمْ يُنَازِعْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ. قَالَ: وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَخْبَرَ أَهْلَ مَكَّةَ بِخَيْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: نَفَـرَتْ قَلُـوصيِ عَـنْ خُـيولِ مُحَمَّدِ *** وَعَجْـوَةٍ مَنْثُـورَةٍ كَـالعُنْجُدِ وَاتَّخَذْتُ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَكَذَا أَنْشَدَنَا الْقَاسِمُ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُوَ: قَـدْ نَفَـرَتْ مِـنْ رُفْقَتَـيْ مُحَـمَّدِ *** وَعَجْـوَةٍ مِـنْ يَـثْرِبٍ كَـالعُنْجُدِ تَهْـوِي عَـلَى دِيـنِ أَبيهَـا الأتْلَـدِ *** قَـدْ جَـعَلْتُ مَـاءَ قُدَيْـدٍ مَوْعِـدِي وَمَاءً ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الْغَدِ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَتْ بَدْرٌ مَتْجَرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَخَرَجَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَهُ، وَلَقِيَهُمْ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالُوا لَهُمْ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ فَاخْشَوْهُمْ} ! فَأَمَّا الْجَبَانُ فَرَجَعَ، وَأَمَّا الشُّجَاعُ فَأَخَذَ الْأُهْبَةَ لِلْقِتَالِ وَأُهْبَةَ التِّجَارَةِ، وَقَالُوا: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ "! فَأَتَوْهُمْ فَلَمْ يَلْقَوْا أَحَدًا، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: "إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ فَاخْشَوْهُمْ " قَالَ ابْنُ يَحْيَى قَالَ، عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَأَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: هِيَكَلِمَةُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَقَالَ: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: "إِنَّ الَّذِي قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ فَاخْشَوْهُمْ، كَانَ فِي حَالِ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مَعَهُ فِي أَثَرِ أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، مُنْصَرَفُهُمْ عَنْ أُحُدٍ إِلَى حَمْرَاءَ الْأَسَدِ ". لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا مَدَحَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِقَيْلِهِمْ: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ "، لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، بَعْدَ الَّذِي قَدْ كَانَ نَالَهُمْ مِنَ الْقُرُوحِ وَالْكُلُومِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصِّفَةُ إِلَّا صِفَةَ مَنْ تَبِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَرْحَى أَصْحَابِهِ بِأُحُدٍ إِلَى حَمْرَاءَ الْأَسَدِ. وَأَمَّا الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ جَرِيحٌ إِلَّا جَرِيحٌ قَدْ تَقَادَمَ انْدِمَالُ جُرْحِهِ وَبَرَأَ كَلْمُهُ. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ الْخَرْجَةَ الثَّانِيَةَ إِلَيْهَا، لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ الَّذِي كَانَ وَاعَدَهُ اللِّقَاءَ بِهَا، بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ، فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالَ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ، وَخُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى إِلَيْهَا فِي شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ذَلِكَ وَقْعَةً مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِيهَا حَرْبٌ جُرِحَ فِيهَا أَصْحَابُهُ، وَلَكَِنْ قَدْ كَانَ قُتِلَ فِي وَقْعَةِ الرَّجِيعِ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ لَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَزْوَةَ بَدْرٍ الصُّغْرَى. وَكَانَتْ وَقْعَةُ الرَّجِيعِ فِيمَا بَيْنَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَغَزْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرٍ الصُّغْرَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}، فَانْصَرَفَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ، مِنْ وَجْهِهِمُ الَّذِي تَوَجَّهُوا فِيهِ-وَهُوَ سَيْرُهُمْ فِي أَثَرِ عَدُوِّهِمْ- إِلَى حَمْرَاءَ الْأَسَدِ "بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ "، يَعْنِي: بِعَافِيَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، لَمْ يَلْقَوْا بِهَا عَدُوًّا. "وَفَضْلٍ "، يَعْنِي: أَصَابُوا فِيهَا مِنَ الْأَرْبَاحِ بِتِجَارَتِهِمُ الَّتِي تَجَرُوا بِهَا، الْأَجْرَ الَّذِي اكْتَسَبُوهُ: "لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ "يَعْنِي: لَمْ يَنَلْهُمْ بِهَا مَكْرُوهٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَلَا أَذَى "وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ "، يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ أَرْضَوْا اللَّهَ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ، وَاتِّبَاعِهِمْ رَسُولَهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ أَثَرِ الْعَدُوِّ، وَطَاعَتِهِمْ "وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ "، يَعْنِي: وَاللَّهُ ذُو إِحْسَانٍ وَطَوْلٍ عَلَيْهِمْ-بِصَرْفِ عَدُوِّهِمُ الَّذِي كَانُوا قَدْ هَمُّوا بِالْكَرَّةِ إِلَيْهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ- بِنِعَمِهِ "عَظِيم" عِنْدَ مَنْ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}، قَالَ: وَالْفَضْلُ مَا أَصَابُوا مِنَ التِّجَارَةِ وَالْأَجْرِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، وَافَقُوا السُّوقَ فَابْتَاعُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}. قَالَ: الْفَضْلُ مَا أَصَابُوا مِنَ التِّجَارَةِ وَالْأَجْرِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَا أَصَابُوا مِنَ الْبَيْعِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٌ، أَصَابُوا عَفْوَهُ وَغِرَّتَهُ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ: وَقَوْلُهُ: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}، قَالَ: قَتْلٌ {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}، قَالَ: طَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: "وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ "، لِمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَطَاعُوا اللَّهَ وَابْتَغَوْا حَاجَتَهُمْ، وَلَمْ يُؤْذِهِمْ أَحَدٌ، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي حِينَ خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى- بِبَدْرٍ دَرَاهِمَ، ابْتَاعُوا بِهَا مِنْ مَوْسِمِ بَدْرٍ فَأَصَابُوا تِجَارَةً، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الِلَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}. أَمَّا "النِّعْمَةُ "فَهِيَ الْعَافِيَةُ، وَأَمَّا "الْفَضْل" فَالتِّجَارَةُ، وَ "السُّوءُ " الْقَتْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّمَا الَّذِي قَالَ لَكَُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: "إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكَُمْ "، فَخَوَّفُوكُمْ بِجُمُوعِ عَدُوِّكُمْ وَمَسِيرِهِمْ إِلَيْكُمْ، مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ أَلْقَاهُ عَلَى أَفْوَاهِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَكَُمْ، يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ قُرَيْشٍ- لِتَرْهَبُوهُمْ، وَتَجْبُنُوا عَنْهُمْ، كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، يُخَوِّفُ وَاللَّهِ الْمُؤْمِنَ بِالْكَافِرِ، وَيُرْهِبُ الْمُؤْمِنَ بِالْكَافِرِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، قَالَ: يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُفَّارِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، يَقُولُ: الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَوْلِيَائِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، أَيْ: أُولَئِكَ الرَّهْطُ، يَعْنِي النَّفَرَ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، الَّذِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالُوا، وَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ "يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ "، أَيْ: يُرْهِبُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ مَوْلَى قُرَيْشٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، قَالَ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُعَظِّمُ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ، أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ، فِي أَنْفُسِكُمْ فَتَخَافُونَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ذِكْرُ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ وَعِظَمِهِمْ فِي أَعْيُنِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، يُعَظِّمُ أَوْلِيَاءَهُ فِي صُدُورِكُمْ فَتَخَافُونَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: "يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ "وَهَلْ يُخَوِّفُ الشَّيْطَانُ أَوْلِيَاءَهُ؟[وَكَيْفَ] قِيلَ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ "يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ " قِيلَ: ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 2] بِمَعْنَى: لِيُنْذِرَكُمْ بَأْسَهُ الشَّدِيدَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَأْسَ لَا يُنْذِرُ، وَإِنَّمَا يُنْذَرُ بِهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنَى ذَلِكَ: يُخَوِّفُ النَّاسَ أَوْلِيَاءَهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: "هُوَ يُعْطِي الدَّرَاهِمَ، وَيَكْسُو الثِّيَابَ "، بِمَعْنَى: هُوَ يُعْطِي النَّاسَ الدَّرَاهِمَ وَيَكْسُوهُمُ الثِّيَابَ، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ الَّذِي شَبَّهَ [مِنْ] ذَلِكَ بِمُشْتَبَهٍ، لِأَنَّ "الدَّرَاهِمَ "فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: "هُوَ يُعْطِي الدَّرَاهِمَ "، مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْطَى هِيَ "الدَّرَاهِمُ "، وَلَيْسَ كَذَلِكَ "الْأَوْلِيَاء"-فِي قَوْلِهِ: "يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ "- مُخَوَّفِينَ، بَلِ التَّخْوِيفُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لِغَيْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ: فَلَا تَخَافُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُمْ، وَلَا تَرْهَبُوا جَمْعَهُمْ، مَعَ طَاعَتِكُمْ إِيَّايَ، مَا أَطَعْتُمُونِي وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرِي، وَإِنِّي مُتَكَفِّلٌ لَكَُمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَلَكَِنْ خَافُونِ وَاتَّقَوْا أَنْ تَعْصُونِي وَتُخَالِفُوا أَمْرِي، فَتَهْلَكَُوا "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "، يَقُولُ: وَلَكَِنْ خَافُونِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ وَدُونَ جَمِيعِ خَلْقِي، أَنْ تُخَالِفُوا أَمْرِي، إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِي رَسُولِي وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَا يَحْزُنْكَ، يَا مُحَمَّدُ كُفْرَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بِمُسَارَعَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ شَيْئًا، وَكَمَا أَنَّ مُسَارَعَتَهُمْ لَوْ سَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ لَمْ تَكُنْ بِنَافِعَتِهِ، كَذَلِكَ مُسَارَعَتُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ غَيْرُ ضَارَّتِهِ. كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}، يَعْنِي: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: "وَلَا {يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}، أَيْ: الْمُنَافِقُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، نَصِيبًا فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ خَذَلَهُمْ فَسَارَعُوا فِيهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَعَ حِرْمَانِهِمْ مَا حُرِمُوا مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ عَذَابُ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ}، أَنْ يُحْبِطَ أَعْمَالَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدُمُ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ: أَنْ لَا يُحْزِنَهُ مُسَارَعَتُهُمْ إِلَى الْكَفْرِ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَاعُوا الْكُفْرَ بِإِيمَانِهِمْ فَارْتَدَوْا عَنْ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهِ، وَرَضُوا بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، عِوَضًا مِنَ الْإِيمَانِ، لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بِكُفْرِهِمْ وَارْتِدَادِهِمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ شَيْئًا، بَلْ إِنَّمَا يَضُرُّونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ، بِإِيجَابِهِمْ بِذَلِكَ لَهَا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ مَا لَا قِبَلَ لَهَا بِهِ. وَإِنَّمَا حَثَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِخْلَاصِ الْيَقِينِ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ، وَالرِّضَى بِهِ نَاصِرًا وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ وَرَغَّبَ بِهَا فِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ دِينِهِ، وَشَجَّعَ بِهَا قُلُوبَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَنْ وَلِيَهُ بِنَصْرِهِ فَلَنْ يُخْذَلَ وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ خَالَفَهُ وَحَادَّهُ، وَأَنَّ مَنْ خَذَلَهُ فَلَنْ يَنْصُرَهُ نَاصِرٌ يَنْفَعُهُ نَصْرُهُ، وَلَوْ كَثُرَتْ أَعْوَانُهُ وَنُصَرَاؤُهُ، كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ}، أَيْ: الْمُنَافِقِينَ "لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "، أَيْ: مُوجِعٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا يَظُنَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَنَّ إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَيَعْنِي بـ "الْإِمْلَاءِ "، الْإِطَالَةَ فِي الْعُمْرِ، وَالْإِنْسَاءَ فِي الْأَجَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [سُورَةُ مَرْيَمَ: 46] أَيْ: حِينًا طَوِيلًا وَمِنْهُ قِيلَ: "عِشْتَ طَوِيلًا وَتَمَلَّيْتَ حَبِيبًا ". "وَالْمَلَا " نَفْسُهُ الدَّهْرُ، "وَالْمَلَوَانِ "، اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَمِيمِ بْنِ مُقْبِلٍ: أَلَا يَـا دِيَـارَ الحَـيِّ بِالسَّـبُعَانِ *** أَمَـلَّ عَلَيْهَـا بِـالبِلَى المَلَـوَانِ يَعْنِي: بـ "الْمَلَوَانِ "، اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَدْ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ}. فَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} بِالْيَاءِ، وَبِفَتْحِ "الْأَلِفِ " مِنْ قَوْلِهِ: "أَنَّمَا "، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ مِنْ تَأْوِيلِهِ. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} بِالتَّاءِ وَ"أَنَّمَا "أَيْضًا بِفَتْحِ "الْأَلِف" مِنْ "أَنَّمَا "، بِمَعْنَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ، يَا مُحَمَّدُ، الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فَتَحْتَ "الْأَلِفَ "مِنْ قَوْلِهِ: "أَنَّمَا" فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ بِالتَّاءِ فَقَدْ أَعْمَلْتَ "تَحْسَبَنَّ "، فِي "الَّذِينَ كَفَرُوا "، وَإِذَا أَعْمَلْتَهَا فِي ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَقَعَ عَلَى "أَنَّمَا "لِأَنَّ "أَنَّمَا" إِنَّمَا يَعْمَلُ فِيهَا عَامِلٌ يَعْمَلُ فِي شَيْئَيْنِ نَصْبًا؟ قِيلَ: أَمَّا الصَّوَابُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَوَجْهُ الْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، كَسْرُ "إِنَّ "إِذَا قُرِئَتْ "تَحْسَبَن" بِالتَّاءِ، لِأَنَّ "تَحْسَبَنَّ "إِذَا قُرِئَتْ بِالتَّاءِ فَإِنَّهَا قَدْ نَصَبَتْ "الَّذِينَ كَفَرُوا "، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ، وَقَدْ نَصَبَتِ اسْمًا، فِي "أَنَّ ". وَلَكَِنِّي أَظُنُّ أَنَّ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالتَّاءِ فِي "تَحْسَبَن" وَفَتَحَ الْأَلِفَ مِنْ "أَنَّمَا "، إِنَّمَا أَرَادَ تَكْرِيرَ تَحْسَبَنَّ عَلَى "أَنَّمَا "، كَأَنَّهُ قَصَدَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ، يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ، الَّذِينَ كَفَرُوا، لَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: 18] بِتَأْوِيلِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَجْهًا جَائِزًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَوَجْهُ كَلَامِ الْعَرَبِ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بِالْيَاءِ مِنْ "يَحْسَبَنَّ "، وَبِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ "أَنَّمَا "، عَلَى مَعْنَى الْحُسْبَانِ لِلَّذِينِ كَفَرُوا دُونَ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ يَعْمَلُ فِي "أَنَّمَا "نَصْبًا لِأَنَّ "يَحْسَبَن" حِينَئِذٍ لَمْ يُشْغَلْ بِشَيْءٍ عَمِلَ فِيهِ، وَهِيَ تَطْلُبُ مَنْصُوبَيْنَِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْقَرَأَةِ عَلَى فَتْحِ "الْأَلِفِ "مِنْ "أَنَّمَا" الْأُولَى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ الصَّحِيحَةَ فَى "يَحْسَبَنَّ " بِالْيَاءِ لِمَا وَصَفْنَا. وَأَمَّا أَلِفُ "إِنَّمَا " الثَّانِيَةُ، فَالْكَسْرُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْقَرَأَةِ عَلَيْهِ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: "إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا "، إِنَّمَا نُؤَخِّرُ آجَالَهُمْ فَنُطِيلُهَا لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، يَقُولُ: يَكْتَسِبُوا الْمَعَاصِيَ فَتَزْدَادُ آثَامُهُمْ وَتَكْثُرُ "وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ "، يَقُولُ: وَلِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْآخِرَةِ عُقُوبَةٌ لَهُمْ مُهِينَةٌ مُذِلَّةٌ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا. وَقَرَأَ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}، وَقَرَأَ: {نُـزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 198].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "مَا كَانَ اللَّهُ ليَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ "، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَدَعَ الْمُؤْمِنِينَ "عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ "مِنَ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِ مِنْكُمْ بِالْمُنَافِقِ، فَلَا يُعْرَفُ هَذَا مِنْ هَذَا "حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ "، يُعْنَى بِذَلِكَ: "حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيث" وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْمُسْتَسِرُّ لِلْكُفْرِ "مِنَ الطَّيِّبِ "، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُخْلِصُ الصَّادِقُ الْإِيمَانِ، بِالْمِحَنِ وَالِاخْتِبَارِ، كَمَا مَيَّزَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ إِلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي "الْخَبِيثِ " الَّذِي عَنَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ، مِثْلَ قَوْلِنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، قَالَ: مَيَّزَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، الْمُنَافِقَ مِنَ الْمُؤْمِنِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ، يَقُولُ: لِيُبَيِّنَ الصَّادِقَ بِإِيمَانِهِ مِنَ الْكَاذِبِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمَ أُحُدٍ، مَيَّزَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، الْمُنَافِقَ عَنِ الْمُؤْمِنِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، أَيْ: الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: حَتَّىيُمَيِّزَ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ بِالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}، يَعْنِي الْكُفَّارَ. يَقُولُ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَدَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، يُمَيِّزُ بَيْنَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، قَالَ: حَتَّى يَمِيزَ الْفَاجِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} قَالُوا: "إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا، فَلْيُخْبِرْنَا بِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَنْ يَكْفُرُ "!! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: "مَا كَانَ اللَّهُ ليَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ "، حَتَّى يَخْرُجَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَهَا فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَهَذِهِ فِي سِيَاقَتِهَا. فَكَوْنُهَا بِأَنْ تَكُونَ فِيهِمْ، أَشْبَهُ مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكَِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَ مُحَمَّدًا عَلَى الْغَيْبِ، وَلَكَِنَّ اللَّهَ اجْتَبَاهُ فَجَعَلَهُ رَسُولًا. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حَمِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، أَيْ: فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ بِهِ، لِتَحْذَرُوا مَا يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ فِيهِ {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}، يَعْلَمُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِتَأْوِيلِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعكُمْ عَلَى ضَمَائِرِ قُلُوبِ عِبَادِهِ، فَتَعْرِفُوا الْمُؤْمِنَ مِنْهُمْ مَنْ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ، وَلَكَِنَّهُ يُمَيِّزُ بَيْنَهُمْ بِالْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءِ كَمَا مَيَّزَ بَيْنَهُمْ بِالْبَأْسَاءِ يَوْمَ أُحُدٍ وَجِهَادِ عَدُوِّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْمِحَنِ، حَتَّى تَعْرِفُوا مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ وَمُنَافِقَهُمْ. غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَيَصْطَفِيهِ، فَيُطْلِعُهُ عَلَى بَعْضِ مَا فِي ضَمَائِرِ بَعْضِهِمْ، بِوَحْيهِ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَرِسَالَتِهِ، كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَكَِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}، قَالَ: يُخَلِّصُهُمْ لِنَفْسِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا التَّأْوِيلَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَهَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ عِبَادَهُ-يَعْنِي بِغَيْرِ مِحَنٍ- حَتَّى يُفَرِّقَ بِالِابْتِلَاءِ بَيْنَ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَأَهْلِ نِفَاقِهِمْ. ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، فَكَانَ فِيمَا افْتُتِحَ بِهِ مِنْصِفَةِ إِظْهَارِ اللَّهِ نِفَاقَ الْمُنَافِقِ وَكُفْرَ الْكَافِرِ، دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَلِيَ ذَلِكَ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُطْلِعَهُمْ عَلَى مَا يَخْفَى عَنْهُمْ مِنْ بَاطِنِ سَرَائِرِهِمْ، إِلَّا بِالَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ مُمَيِّزٌ بِهِ نَعْتَهُمْ إِلَّا مَنْ اسْتَثْنَاهُ مِنْ رُسُلِهِ الَّذِي خَصَّهُ بِعِلْمِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكَُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "وَإِنْ تُؤْمِنُوا "، وَإِنْ تُصَدِّقُوا مَنْ اجْتَبَيْتُهُ مِنْ رُسُلِي بِعِلْمِي وَأَطْلَعْتُهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْكُمْ "وَتَتَّقُوا " رَبَّكُمْ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ {فَلَكَُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، يَقُولُ: فَلَكَُمْ بِذَلِكَ مِنْ إِيمَانِكُمْ وَاتِّقَائِكُمْ رَبَّكُمْ، ثَوَابٌ عَظِيمٌ، كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا}، أَيْ: تَرْجِعُوا وَتَتُوبُوا "فَلَكَُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ: فَقَرَأَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بِالتَّاءِ مِنْ "تَحْسَبَنَّ ". وَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ أُخَرُ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} بِالْيَاءِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا يَحْسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ "يَبْخَلُونَ" مِنْ "الْبُخْلِ"، كَمَا تَقُولُ: "قَدِمَ فُلَانٌ فَسُرِرْتُ بِهِ "، وَأَنْتَ تُرِيدُ: فَسُرِرْتُ بِقُدُومِهِ. وَ"هُوَ"، عِمَادٌ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ: إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} لَا يَحْسَبَنَّ الْبُخْلَ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ "، فَأَلْقَى الِاسْمَ الَّذِي أَوْقَعَ عَلَيْهِ "الْحُسْبَان" بِهِ، هُوَ الْبُخْلُ، لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ "الْحُسْبَانَ " وَذَكَرَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ "، فَأَضْمَرَهُمَا إِذْ ذَكَرَهُمَا. قَالَ: وَقَدْ جَاءَ مِنَ الْحَذْفِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، قَالَ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} وَلَمْ يَقُلْ: {وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ}، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ} [سُورَةُ الْحَدِيدِ: 10]، كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عَنَاهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ قَوْلَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: إِنَّ "مَنْ "فِي قَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} فِي مَعْنَى جَمَعَ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَحَالَاتِهِمْ، فَكَيْفَ مَنَّ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ؟ فَالْأَوَّلُ مُكْتَفٍ. وَقَالَ: فِي قَوْلِهِ {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} مَحْذُوفٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْذَفْ إِلَّا وَفِي الْكَلَامِ مَا قَامَ مَقَامَ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ "هُوَ "عَائِدُ الْبُخْلِ، وَ"خَيْرًا لَهُم" عَائِدُ الْأَسْمَاءِ، فَقَدْ دَلَّ هَذَانَ الْعَائِدَانِ عَلَى أَنَّ قَبْلَهُمَا اسْمَيْنِ، وَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: "يَبْخَلُونَ " مِنْ "الْبُخْلِ ". قَالَ: وَهَذَا إِذَا قُرِئَ بـ "التَّاءِ "، فـ "الْبُخْلُ "قَبْلَ "الَّذِينَ "، وَإِذَا قُرِئَ بـ "الْيَاءِ"، فـ "الْبُخْل" بَعْدَ "الَّذِينَ "، وَقَدْ اكْتَفَى بـ "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ "، مِنَ الْبُخْلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا نُهِـيَ السَّـفِيهُ جَـرَى إِلَيْـهِ *** وَخَـالَفَ وَالسَّـفِيهُ إِلـى خِـلافِ كَأَنَّهُ قَالَ: جَرَى إِلَى السَّفَهِ، فَاكْتَفَى عَنِ "السَّفَهِ" بـ "السَّفِيهِ"، كَذَلِكَ اكْتَفَى بـ "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ"، مِنْ "الْبُخْلِ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بِالتَّاءِ، بِتَأْوِيلِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ، أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ثُمَّ تَرَكَ ذِكْرَ "الْبُخْلِ "، إِذْ كَانَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ فِي الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَهُ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وَإِنَّمَا قُلْنَا: قِرَاءَةُ ذَلِكَ بِالتَّاءِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قِرَاءَتِهِ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ "الْمَحْسَبَةَ "مِنْ شَأْنِهَا طَلَبُ اسْمٍ وَخَبَرٍ، فَإِذَا قُرِئَ قَوْلُهُ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بِالْيَاءِ: لَمْ يَكُنْ لِلْمَحْسَبَةِ اسْمٌ يَكُونُ قَوْلُهُ: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} خَبَرًا عَنْهُ. وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ بِالتَّاءِ، كَانَ قَوْلُهُ: "الَّذِينَ يَبْخَلُون" اسْمًا لَهُ قَدْ أَدَّى عَنْ مَعْنَى "الْبُخْلِ "الَّذِي هُوَ اسْمُ الْمَحْسَبَةِ الْمَتْرُوكُ، وَكَانَ قَوْلُهُ: "هُوَ خَيْرًا لَهُم" خَبَرًا لَهَا، فَكَانَ جَارِيًا مَجْرَى الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْفَصِيحِ. فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بـ "التَّاءِ "فِي ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بـ "اليَاء" غَيْرَ خَطَأٍ، وَلَكَِنَّهُ لَيْسَ بِالْأَفْصَحِ وَلَا الْأَشْهَرِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْآيَةِ الَّذِي هُوَ تَأْوِيلُهَا عَلَى مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ: وَلَا تَحْسَبَنَّ، يَا مُحَمَّدُ، بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَا يُخْرِجُونَ مِنْهُ حَقَّ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنَ الزِّكْوَاتِ، هُوَ خَيْرًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ}، هُمُ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَبَخِلُوا أَنْ يُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَدُّوا زَكَاتَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الْيَهُودَ الَّذِينَ بَخِلُوا أَنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ.
ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إِلَى {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، أَنَّهُمْ بَخِلُوا بِالْكِتَابِ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، قَالَ: هُمْ يَهُودُ، إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 184]. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، التَّأْوِيلُ الْأُوَلُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بـ "الْبُخْلِ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، مَنْعُ الزَّكَاةِ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قَالَ: الْبَخِيلُ الَّذِي مَنَعَ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ، أَنَّهُ يَصِيرُ ثُعْبَانًا فِي عُنُقِهِ وَلِقَوْلِ اللَّهِ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، فَوَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ زَعَمُوا عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالزَّكَاةِ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {سَيُطَوَّقُونَ}، سَيَجْعَلُ اللَّهُ مَا بَخِلَ بِهِ الْمَانِعُونَ الزَّكَاةَ، طَوْقًا فِي أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الْأَطْوَاقِ الْمَعْرُوفَةِ، كَالَّذِي: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْعَبْدِيِّ قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَأْتِيهِ ذُو رَحِمٍ لَهُ، يَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلٍ عِنْدَهُ فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ، إِلَّا أُخْرِجُ لَهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ عَلَيْهِ شُجَاعًا أَقْرَعَ. قَالَ: وَقَرَأَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبَى قَزَعَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ فَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ عِنْدَهُ، فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ، إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ مِنْ جَهَنَّمَ شُجَاعٌ يَتَلَمَّظُ حَتَّى يُطَوِّقَهُ). حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي قَزَعَةَ حَجَرِ بْنِ بَيَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ فَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ، إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ حَتَّى يُطَوِّقَهُ). ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَرِّيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، وَاللَّفْظُ لِيَعْقُوبَ جَمِيعًا، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ. عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَا يَأْتِي رَجُلٌ مَوْلَاهُ فَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِ مَالٍ عِنْدَهُ، فَيَمْنَعُهُ إِيَّاهُ، إِلَّا دُعِيَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ يَتَلَمَّظُ فَضْلَهُ الَّذِي مَنَع). حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: ثُعْبَانٌ يَنْقُرُ رَأْسَ أَحَدِهِمْ، يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ الَّذِي بَخِلْتَ بِهِ !. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ: أَنَّهُ سَمْعَ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: شُجَاعٌ يَلْتَوِي بِرَأْسِ أَحَدِهِمْ. حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ، أَخْبَرَنَا النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِمَثَلِهِ- إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا قَالَ: شُجَاعٌ أَسْوَدُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَجِيءُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُعْبَانًا، فَيَنْقُرُ رَأْسَهُ فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ الَّذِي بَخِلْتَ بِهِ! فَيَنْطَوِي عَلَى عُنُقِهِ. حُدِّثْتُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَعْيُنَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ أَحَدٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ، إِلَّا مُثِّلَ لَهُ شُجَاعٌ أَقْرَعُ يُطَوِّقُهُ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} الْآيَة). حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ}، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يُطَوِّقُهُ، فَيَأْخُذُ بِعُنُقِهِ، فَيَتْبَعُهُ حَتَّى يَقْذِفَهُ فِي النَّارِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: هُوَالرَّجُلُ الَّذِي يَرْزُقُهُ اللَّهُ مَالًا فَيَمْنَعُ قَرَابَتَهُ الْحَقَّ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ فِي مَالِهِ، فَيُجْعَلُ حَيَّةً فَيُطَوَّقُهَا، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلَكَ! فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ! حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍعَنْ قَوْلِهِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: يُطَوَّقُونَ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَنْهَشُ رَأْسَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، فَيَجْعَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ طَوْقًا مِنْ نَارٍ.
ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: طَوْقًا مِنَ النَّارِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: طَوْقًا مِنْ نَارٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: {سَيُطَوَّقُونَ}، قَالَ: طَوْقًا مِنْ نَارٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: طَوْقًا مِنْ نَارٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: سَيَحْمِلُ الَّذِينَ كَتَمُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، مَا كَتَمُوا مِنْ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ قَالَ: {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 37 سُورَةُ الْحَدِيدِ: 24]، يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ: يَقُولُ: يَكْتُمُونَ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْكِتْمَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: سَيُكَلَّفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَأْتُوا بِمَا بَخِلُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: سَيُكَلَّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا بَخِلُوا بِهِ، إِلَى قَوْلِهِ: "وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ". حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {سَيُطَوَّقُونَ}، سَيُكَلِّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا بَخِلُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، التَّأْوِيلُ الَّذِي قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ فِي مَبْدَأِ قَوْلِهِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ}، لِلْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَحَدَ أَعْلَمُ بِمَا عَنَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتَنْـزِيلِهِ، مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّهُ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ جَمِيعِ خَلْقِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: "لَهُ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "، وَ "المِيرَاثُ " الْمَعْرُوفُ، هُوَ مَا انْتَقَلَ مِنْ مِلْكِ مَالِكٍ إِلَى وَارِثِهِ بِمَوْتِهِ، وَلِلَّهِ الدُّنْيَا قَبْلَ فَنَاءِ خَلْقِهِ وَبَعْدِهِ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مَا وَصَفْنَا، مِنْ وَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالْبَقَاءِ، وَإِعْلَامِ خَلْقَهُ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْفَنَاءُ. وَذَلِكَ أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ إِنَّمَا يَصِيرُ مِيرَاثًا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، إِعْلَامًا بِذَلِكَ مِنْهُ عِبَادَهُ أَنَّ أَمْلَاكَ جَمِيعِ خَلْقِهِ مُنْتَقِلَةٌ عَنْهُمْ بِمَوْتِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ إِلَّا وَهُوَ فَانٍ سِوَاهُ، فَإِنَّهُ الَّذِي إِذَا أَهْلَكَ جَمِيعَ خَلْقِهِ فَزَالَتْ أَمْلَاكُهُمْ عَنْهُمْ، لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَكُونُ لَهُ مَا كَانُوا يُمَلِّكُونَهُ غَيْرَهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِي يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، بَعْدَ مَا يَهْلَكَُونَ وَتَزُولُ عَنْهُمْ أَمْلَاكُهُمْ، فِي الْحِينِ الَّذِي لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَصَارَ لِلَّهِ مِيرَاثُهُ وَمِيرَاثُ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ بِمَا يَعْمَلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ، ذُو خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ، مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، حَتَّى يُجَازِيَ كُلًّا مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ، الْمُحْسِنَ بِالْإِحْسَانِ، وَالْمُسِيءَ عَلَى مَا يَرَى تَعَالَى ذِكْرُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَآيَاتٍ بَعْدَهَا نَزَلَتْ فِي بَعْضِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ الْآثَارِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَوَجَدَ مِنَ يَهُودَ نَاسًا كَثِيرًا قَدْ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ فِنْحَاصُ، كَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، وَمَعَهُ حَبْرٌ يُقَالُ لَهُ أَشَيْعُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِفِنْحَاصَ: وَيْحَكَ يَا فِنْحَاصُ، اتَّقِ اللَّهَ وَأَسْلِمْ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لِتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ! قَالَ فِنْحَاصُ: وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا بِنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لِفَقِيرٌ! وَمَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ لِأَغْنِيَاءَ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غنيًّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ! يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا وَيُعْطِينَاهُ! وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا! فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! فَأَكْذِبُونَا مَا اسْتَطَعْتُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، انْظُرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُكَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ! فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْتُ لِلَّهِ مِمَّا قَالَ، فَضَرَبْتُ وَجْهَهُ. فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنْحَاصُ وَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ، رَدًّا عَلَيْهِ وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ: "لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتَلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ " وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَبِ: {لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 186]. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: (وَإِنَّا عَنْهُ لِأَغْنِيَاءَ، وَمَا هُوَ عَنَّا بِغَنِيٍّ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا)، ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، قَالَهَا فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي مَرْثَدٍ، لَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا فِنْحَاصُ، اتَّقِ اللَّهَ وَآمِنْ وَصَدِّقْ، وَأَقْرِضْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا! فَقَالَ فِنْحَاصُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، تَزْعُمُ أَنَّ رَبَّنَا فَقِيرٌ يَسْتَقْرِضُنَا أَمْوَالَنَا! وَمَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا الْفَقِيرُ مِنَ الْغَنِيِّ! إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَإِنَّ اللَّهَ إذًا لِفَقِيرٌ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَلَوْلَا هُدْنَةٌ كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ بَنِي مَرْثَدٍ لَقَتَلْتُهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَكَّ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْهُمْ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، لِمَ يَسْتَقْرِضُنَا وَهُوَ غَنِيٌّ؟! وَهُمْ يَهُودُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، لِمَ يَسْتَقْرِضُنَا وَهُوَ غَنِيٌّ؟ قَالَ شِبْلٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} وَ {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حُدِّثْتُ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ، لَمَّا نَزَلَتْ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 245 سُورَةُ الْحَدِيدِ: 11] قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ رَبَّكُمْ يَسْتَقْرِضُ مِنْكُمْ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قَالَ: عَجِبَتْ الْيَهُودُ فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ يَسْتَقْرِضُ! فنَزَلَتْ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، ذَكَرَ لَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، لَمَّا أَنْـزَلَ اللَّهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} قَالَ: يَسْتَقْرِضُنَا رَبُّنَا، إِنَّمَا يَسْتَقْرِضُ الْفَقِيرُ الْغَنِيَّ! حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّمَا يَسْتَقْرِضُ الْفَقِيرُ مِنَ الْغَنِيِّ!! قَالَ: فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ زَيْدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، قَالَ: هَؤُلَاءِ يَهُودُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا مِنَ الْيَهُودِ: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ إِلَيْنَا وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ عَنْهُ}، سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا مِنَ الْإِفْكِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى رَبِّهِمْ، وَقَتْلِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِقَوْلِهِ: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتَلَهُمْ}.وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ قِرَاءَاتٍ فَقَرَأَ ذَلِكَ ْقَرَأَةُ الْحِجَازِ وَعَامَّةُ ْقَرَأَةِ الْعِرَاقِ: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} بِالنُّونِ، {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} بِنَصْبِ "الْقَتْلِ ". وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ ْقَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: {سَيُكْتَبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَق} بِالْيَاءِ مَنْ "سَيَكْتُبُ " وَبِضَمِّهَا، وَرَفْعِ "الْقَتْلِ "، عَلَى مَذْهَبِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، اعْتِبَارًا بِقِرَاءَةٍ يُذْكَرُ أَنَّهَا مِنْ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {وَنَقُولُ ذُوقُوا}، يُذْكَرُ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "وَيُقَالُ ". فَأَغْفَلَ قَارِئُ ذَلِكَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيمَا قَصَدَ إِلَيْهِ مِنْ تَأْوِيلِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَخَالَفَ الْحُجَّةَ مِنْ قَرَأَةِ الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي لِمَنْ قَرَأَ: {سَيَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتَلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ} عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَنْ يَقْرَأَ: "وَيُقَالُ "، لِأَنَّ قَوْلَهُ: "وَنَقُول" عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "سَنَكْتُبُ ". فَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى بِأَنْ يُقْرَآ جَمِيعًا عَلَى مَذْهَبِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَا يُسَمَّى فَاعِلُهُ. فَأَمَّا أَنْ يَقْرَأَ أَحَدَهُمَا عَلَى مَذْهَبِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْآخِرُ عَلَى وَجْهِ مَا قَدْ سُمِّيَ فَاعِلُهُ، مِنْ غَيْرِ مَعْنًى أَلْجَأَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَاخْتِيَارٌ خَارِجٌ عَنِ الْفَصِيحِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: "سَنَكْتُبُ "بِالنُّونِ "وَقَتْلَهُم" بِالنَّصْبِ، لِقَوْلِهِ: "وَنَقُولُ "، وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي "سَيُكْتَبُ " بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا، لَقِيلَ: "وَيُقَالُ "، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ قِيلَ: "وَقَتَلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ "، وَقَدْ ذَكَرْتَ فِي الْآثَارِ الَّتِي رَوَيْتَ، أَنَّ الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} بَعْضَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أُولَئِكَ أَحَدٌ قَتَلَ نبيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا نبيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فَيَقْتُلُوهُ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبْتُ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ، كَانُوا رَاضِينَ بِمَا فَعَلَ أَوَائِلُهُمْ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانُوا مِنْهُمْ وَعَلَى مِنْهَاجِهِمْ، مِنَ اسْتِحْلَالِ ذَلِكَ وَاسْتِجَازَتِهِ. فَأَضَافَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِعْلَ مَا فَعَلَهُ مَنْ كَانُوا عَلَى مِنْهَاجِهِ وَطَرِيقَتِهِ، إِلَى جَمِيعِهِمْ، إِذْ كَانُوا أَهْلَ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَنِحْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبِالرِّضَى مِنْ جَمِيعِهِمْ فِعْلِ مَا فَعَلَ فَاعِلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ نَظَائِرِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَْمَتْ أَيْدِيَكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [181- 182] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "وَنَقُولُ " لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، الْقَاتِلِينَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "ذُوقُوا {عَذَابَ الْحَرِيقِ}، يَعْنِي بِذَلِكَ: عَذَابَ نَارٍ مُحْرِقَةٍ مُلْتَهِبَةٍ. وَ "النَّارُ "اسْمٌ جَامِعٌ لِلْمُلْتَهِبَةِ مِنْهَا وَغَيْرِ الْمُلْتَهِبَةِ، وَإِنَّمَا "الْحَرِيق" صِفَةٌ لَهَا يُرَادُ أَنَّهَا مُحْرِقَةٌ، كَمَا قِيلَ: "عَذَابٌ أَلِيمٌ "يَعْنِي: مُؤْلِمٌ، وَ"وَجِيع" يَعْنِي: مُوجِعٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "ذَلِكَ بِمَا قَدَْمَتْ أَيْدِيكُمْ "، أَيْ: قَوْلُنَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}، بِمَا أَسْلَفَتْ أَيْدِيكُمْ وَاكْتَسَبَتْهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَبِأَنَّاللَّهَ عَدْلُ لَا يَجُورُ فَيُعَاقِبُ عَبْدًا لَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ الْعُقُوبَةَ، وَلَكَِنَّهُ يُجَازِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَ، فَجَازَى الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ [ذَلِكَ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ بِمَا جَازَاهُمْ بِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَرِيقِ، بِمَا اكْتَسَبُوا مِنَ الْآثَامِ، وَاجْتَرَحُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِالْإِنْذَارِ. فَلَمْ يَكُنْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَا عَاقَبَهُمْ بِهِ مِنْ إِذَاقَتِهِمْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ظَالِمًا، وَلَا وَاضِعًا عُقُوبَتَهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا. وَكَذَلِكَ هُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، غَيْرُ ظَلَّامٍ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكَِنَّهُ الْعَادِلُ بَيْنَهُمْ، وَالْمُتَفَضِّلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِمَا أَحَبَّ مِنْ فَوَاضِلِهِ وَنِعَمِهِ.
|